الطليعة الشحرية
حين تُصفِّق الجماهير لمن يُديرهم من الظل.. هذا ما كان يدور في ذهني عندما أرمقُ وجوه الموظفين بعد كل اجتماع، لاحظت أن الجماهير لا ترى من المشهد إلّا ما وُجِّهت إليه أعينها، إنهم يُصفّقون لمن يقف في الضوء، ويصمتون أمام من يعمل في العتمة، ينجذبون إلى البريق والهيئة والخطاب، أكثر من تعلقهم إلى الفعل الصامت أو الذكاء المتخفي.
قلت في نفسي:
- "الجماهير هنا لا تختلف كثيرًا عن جماهير المسرح؛ تضحك في الموضع المقرر، وتصفق حين يُرفع الستار، لكنها نادرًا ما تتساءل عمّن كتب النص أو من يدير المشهد من وراء الكواليس."
وفي تلك اللحظة، بدأ ظلٌ جديد يتحرك في أروقة المؤسسة.. ظلّ لا يبحث عن الأضواء، بل يُفضّل الزوايا البعيدة حيث تُنسج الخيوط بهدوء، لم يكن لامعًا كالطاووس، ولا صاخبًا كالببغاء، بل ماكرًا كمن يتقن لعبة الزمن. كانت عيناه تضيقان حين يبتسم، وكأنهما تخفيان حسابًا دقيقًا لا يراه أحد. هكذا دخل الثعلب المشهد، لا بانفجارٍ أو استعراض، بل بتسللٍ محسوبٍ كمن يدسّ نفسه بين العقول لا بين الصفوف.
بدأ بموقفٍ بسيطٍ في مشروعٍ متعثر، قدّم نفسه كمخلّصٍ صامتٍ، ثم خطف مجهود غيره بذكاءٍ باردٍ لا يتلعثم. بعد ذلك، جاء حوار الفراشة مع ذاتها، تساءلت فيه عن الحدود الخفية بين الذكاء النبيل والمكر الخبيث.
لم يكتفِ الثعلب بالظلال؛ بل بحث عن واجهةٍ يستتر خلفها، فوجد في الطاووس المنتفخ بالأنا ضالته. تغزّل به ليُغريه، ودفعه إلى مقدمة المسرح بينما هو يُدير الخيوط من الخلف، يفتح الأبواب من خلال غروره، ويستثمر سذاجته في تمرير مخططاته.
وهكذا تكتمل لوحة الثعلب مكرٌ هادئ في الكواليس، ثم استغلالٌ مدروس لغرور الآخرين، كل ذلك، بينما الجماهير ما زالت تصفق في الاتجاه الخطأ.
إذا كان الطاووس يعيش على الاستعراض؛ فالثعلب يعيش على الوعد، لسانه ناعم كالحرير، كلماته حلوة كالعسل، لكنها عند التذوق لا تزيد عن ماءٍ مالح.
في أحد الأيام، كانت المؤسسة تعيش حالة ارتباك بسبب مشروعٍ متعثرٍ تأخر تسليمه، وبينما كان الجميع مشغولًا بمحاولة إنقاذ الموقف، ظهر الثعلب من خلف الممرات بهدوئه المعتاد. لم يتكلم في البداية؛ بل وقف يتأمل المشهد بعينيه الضيقتين، يلمع فيهما بريق مكرٍ يعرف متى يتدخل وأين يضع كلمته.
اقترب الثعلب الماكر من المدير وقال بصوتٍ خافتٍ محسوب:
- "أعتقد أنني أستطيع حل هذه الأزمة... لكنني لا أحب أن أتكلم قبل أن أضمن النتائج."
ابتسم المدير وطلب منه التقدُّم بخُطته، لم تكن لديه خطة في الحقيقة، لكنه كان قد لمح في اليوم السابق أحد الزملاء المجتهدين يعمل بصمت على مقترحٍ بديل لإنقاذ المشروع. ذهب الثعلب إليه في المساء، وجلس إلى جواره كما يجلس الصديق الحميم، وقال:
- "أعرف أنك تبذل جهدًا عظيمًا، وأنا واثق أنك ستنقذ الموقف. دعني فقط أقدّم أفكارك للمدير بطريقةٍ منظمة، وسأذكر اسمك بالطبع".
ابتسم الزميل بطيبةٍ، ووافق، وفي صباح اليوم التالي، دخل الثعلب الاجتماع أمام الجميع، وبدأ يعرض الحلول بدقة وثقةٍ وكأنه مهندسها الأول؛ بل أضاف بعض العبارات المنمقة ليُضفي عليها هالة ذكاءٍ وخبرة. انتهى الاجتماع والمدير يُثني عليه، والزملاء يُصفِّقون، بينما صاحب الفكرة الحقيقي جلس في زاوية القاعة صامتًا، يبتسم ابتسامة مريرة لا يسمعها أحد. وقفتُ أراقب الثعلب وهو يخرج بخطواتٍ هادئة، يربّت على كتف المدير في ثقةٍ مصطنعة. قلت في نفسي:
- "ماكرٌ هذا الثعلب... لا يصطاد بفكيه؛ بل بعقول الآخرين، يراقب من بعيد، يقترب في اللحظة المناسبة، يلتهم الفكرة بهدوء، ثم يمسح فمه بمنديل الكلمات الجميلة".
راقبت الثعلب وهو ينسحب بهدوء، وقد نال التصفيق كله دون أن يلوث يديه بالعمل، كان يمشي بخفة من يعرف جيدًا خيوط اللعبة، لا بعفوية الموهوب، بل بدهاء منسوج بخيوط التجربة والخديعة.
همستُ لنفسي:
- "أهو الذكاء ما رأيته للتو؟ أم مكرٌ بارع في التنكر؟ هل الفارق بين الحكمة والخديعة مجرد نوايا خفية لا يراها أحد؟".
ردّ صوت داخلي هادئ:
- "الذكاء يُبنى من ذاته، أما المكر فيُسرق من غيره، الذكاء يُضيء الطريق للجميع، بينما المكر يُطفئ الأنوار ليسير وحده، الذكاء ينفع الجماعة، والمكر يقتات على تعب الجماعة ليُشبع فردًا."
صمتُّ برهة، ثم قلت في تأملٍ عميق:
- "ربما كان الماكر يشبه الماء في انسيابه، لكنه ماء ملوث، ينساب بخفةٍ ليغمر الآخرين لا ليسقيهم."
ثقة الثعلب صافية كزجاجٍ خادع، لم يكن يقدم خطة حقيقية؛ بل حُلمًا مغلفًا بالكلمات البراقة، كان صوته مطمئنًا، نبرته موزونة، وإيقاع عباراته محسوبًا كمن يعرف مواضع التصفيق قبل أن يبدأ الحديث.
قلت في نفسي:
- "إنه لا يبيع العمل؛ بل يبيع الحلم، لا يقدّم حقيقة؛ بل يصوغ وعدًا أنيقًا يجعل الآخرين يعلقون عليه آمالهم."
رأيتُ كيف كانت الوجوه من حوله تلمع، لا لأنها رأت إنجازًا؛ بل لأنها وجدت ملاذًا مؤقتًا من القلق، الوعود بالنسبة لهم ليست التزامًا، بل مسكّنًا نفسيًا يخفف وطأة الانتظار.
الثعلب يفهم هذه النفس البشرية جيدًا؛ يعرف أن الناس حين يرهقهم الواقع، يسهل أن يسرق أحلامهم بتغليفها على طريقته، لا يحتاج إلى بناء جسر، يكفيه أن يرسم لهم ضبابًا على ضفة بعيدة، ثم يدعوهم للتصفيق.
قلت في أعماقي:
- "إنه لا يسرق أحلامهم بيده؛ بل يجعلهم يودعونها عنده طائعين، يزرع فيهم الأمل، ثم يحصده لنفسه، يسرق الضوء من عيونهم ليصنع به هالته الخاصة".
تذكرتُ حينها أن أخطر اللصوص ليس من يسرق الممتلكات؛ بل من يسرق التطلُّعات، ويترك وراءه فراغًا لا تملؤه الأعذار.
كتبت في دفتري:
"الثعلب لا يَعِد ليحقق؛ بل ليقبض ثمن الوهم، يبيع الأحلام بأقساطٍ من الكلام، ويسرق المستقبل بهدوءٍ من يفتح القفص والمغرد داخله لا يشعر".